Canalblog
Editer l'article Suivre ce blog Administration + Créer mon blog
Publicité
خطري Khattry
Archives
Derniers commentaires
17 mars 2009

المقال الذي أرعج العسكر

هذه هي المقالة التي نشرها الكاتب الموريتاني أبو العباس ولد ابراهام على موقع تقدمي فأزعجت دولة العسكر فأعتقلوا الكاتب وحجبوا الموقع ننشرها هنا دون زيادة ولا نقصان رغم طولها تضامنا مع القلم الصحفي الشاب المعتقل

موريتانيا الأعماق: مقطع عرضي في النظام الموريتاني الجديد/أبو العباس ولد برهام

b_150_150_16777215_0_stories_abbass_braham1

خلاصة: كان انقلاب "السادس" تصحيحا للشرود عن نظام المكافأة السياسية والسياسة التقليدية المبنية على مبدأ التمثيل. وهذه المرة توحدت قوى نخبوية في إطار خيار استراتيجي انطلق من الواقعية السياسية التي فرضتها تجربة انتخابات 2007. ثلاثة قوى سياسية وثلاثة أيدلوجيات اجتمعت لإعادة النظام القديم إلى دفة القيادة.

مقتل الأب

في البدء كان هنالك ولد الطايع، و كان جسمه السياسي يسد جميع المنافذ، و بنى إمبراطورية سياسية بالمعنى البديل: تحالف القوة والمال والإدارة ، زواج التكنوقراط بالمال والأعمال برجال القبائل، علاقات شخصية تتعالى على دولة المواطنة، مكافآت سياسية تسود في كل مكان وتعبئة لتمجيد "من ما مثله سيد" مقابل التمكن والازدهار. و لا ريب أن ولد الطايع، عندما كان يخرج على قومه في زينته كان يأخذ إسارهم وكان يسحرهم (وطبعا كان قائد حرسه على رأس هؤلاء)، كانوا ينظرون إليه مأخوذي الألباب: ما أعظمه.  كان الطايع أبا وكان لا بد من قتله من أجل لعب دوره. أحيانا لا تكون الانقلابات أكثر من تقلبات. انتهى الطايع دون أن ينتهي من حكم البلاد.

مجتمع جديد

دعونا نطرح هذا السؤال: مالذي يحدث عندما نبعد المجتمع السياسي القائم ونضع مكانه مجتمعا بديلا؟

يظهر المجتمع السياسي البديل في شكل أشخاص عاشوا إلى اللحظة البديلة دون وعي بأن هنالك عالما يدعى السياسة وأنه مكان لصراع الأفكار حول طبيعة ومستقبل المجتمع والدولة، أشخاص عاشوا ما عاشوا بمنأى عن صراع الأفكار الهادفة بشكل واع لتغيير المجتمع: ناشطوا هموم يومية من  تجار، رجال أعمال، موردوا شركات، أصدقاء عسكريين، متسكعون في صالونات البلاد، وطبعا الجيل الجديد من شيوخ المجموعات المحلية الذي نبت الشعر بعارضيه للتو ليجد تحته قبيلة طيعة الأعناق، وعليه الآن –الآن- أن يخوض دورة تدريبية في السياسة الوطنية وأن  يحدد بشكل سريع موقفه وبالتالي موقف المجموعة- من الأحداث المتسارعة؛ سكان مناطق نائية أقحمهم التسيس -الناجم من وجود الإبن البار بالصدفة في المعمعة- في المعركة، رجال من الجيش أقنعوا منذ أعوام -ثم منذ عامين- أن قد انتهى دور البندقية في التغيير والآن -بتفكير بطني صرف- صدر قرار بالعدول عن هذا وعليهم استعادة دمهم السياسي قبل أن يخثر؛ شيوخ قبائل من الرعيل الأول، زعماء طوائف عابرو الجهات، نساء أعمال بلا شروط من أجل الارتقاء الاجتماعي، ومتعصبون انتصروا لأبناء عمومتهم دون امتلاك وجهة نظر سياسية خارج الصراع القائم، رياضيون، محاسبون... عجينة عجيبة بحق.

"المجتمع السياسي البديل" قادر على تثوير السياسة وتغيير أسئلتها العتيقة باتجاه أسئلة أخرى هي ما كان مهما للسياسيين الجدد قبل أن يتسيسوا، أسئلة غير سياسية. وهو –مثلا-يبرر انقلابا على نظام منتخب بالإحالة إلى أسئلة صالونية وليست سياسية، مسائل شخصية في حق الرئيس المطاح به وحرمه، ويشرع الخروج عن الديمقراطية باعتبارها ليست أمرا مقدسا عندما يفشل النظام في تحقيق رفاهية المواطن في نفس الوقت الذي يسكت فيه عن أسوأ الأزمات الاقتصادية في تاريخ البلاد القريب في ظل النظام الذي يبشر به، ويسمى نظام علاقات المنفعة والتسيير غير-الممحص انقلابا على الفسادـ، ويبرر التمادي في الغي بحجة أن الغرب يقف ضده، ويحتقر الديمقراطية لأن قوى "كافرة" تشجعها، ويعتبر أن البلاد تعيش أزهى عصورها الذهبية لأن قائد المجتمع السياسي البديل قام بزيارة لحي فقير، وهو يبرر قمع القوى المعادية لأنه يقول إنه يمتلك الأغلبية. في أحاديث السياسيين الجدد تضيع الفروق بين السمر والفعل السياسي.

ضرورة الفهم

خلف هذه العجينة من السياسيين "الجدد" يتمخض مشروع سياسي جديد. ورغم أن شكل المشروع لم يكتمل بعد (كما أنه قد لا يكتمل أبدا بفعل عوامل منها شبح المصالحة الذي قد يعنى نظاما أقل أحادية أو الفشل السياسي للسلطة القائمة أو هزيمتها أو ربما في مرحلة لاحقة طغيان الكاريزما الشخصية للجنرال الحاكم وبالتالي تغييب البعد الجماعي للمشروع) إلا أنه من الصائغ التعرف على ما يدور في الكواليس السياسية لدواعي ضرورة التعرف على المشاريع الكامنة في المجتمع، والتي قد تكون مؤثرة في تحديد مستقبل البلاد في حالة الحسم العسكري –الذي يبدو أن قوى اجتماعية وسياسيةعريضة لم تتفق بعد على ضرورة استبعاده- والتعالي على التطور الطبيعي الذي يفرضه الانتقال الديمقراطي.

ويجب أن لا نسارع بالإعتقاد أن المشروع طور التكون (مشروع المجتمع السياسي البديل) كان ناضجا ومكتملا في الذهن العام لأنصاره وأنه هو الذي قام بالانقلاب بشكل واع بقدر ما أنه الأيدلوجيا التي وجدها النظام أقرب إليه بعد حيثيات الإنقلاب. وهذا يعني أنه في الوقت الذي كان فيه المشروع كامنا في نفوس منظرين استراتيجيين لحظة أزمة الصراع على السلطة ولم يكن فاعلا –آنئذ- في تمظهر اجتماعي جدي فإنه قفز فجأة إلى السطح–بعد الإنقلاب- واستحوذ على السلطة معطيا إياها شكله الفكري في شكل تحالف قوة وفكر.

الأقانيم الثلاثة

وفي حقيقة الأمر فإن انقلاب السادس أغسطس لم يكن صراعا مصلحيا بين الرئيس والجنرالات الثلاثة بقدر ما كان تذمرا شخصي الطابع من جنرالات اعتقدوا أنهم يقزمون سياسيا بحرية الرئيس المطلقة في اتخاذ القرار بعيدا عن التوصيات والنصائح القادمة من تحت القبعات. ولقد تم إذكاء هذا التذمر وتحويله إلى حقد وأدلجته إلى قضية شرفية و"قصة رئيس خائن" بفعل وجود ثلاثة مصالح اقتنعت بعدم جدوائية –بل بخطورة- النظام القائم عليها ماديا وسياسيا وضرورة إسقاطه:

1-نظام المكافأة السياسية: ممثلا في رأس المال الاجتماعي من الأعيان والوجهاء وأمراء وشيوخ مجموعات محلية عصبوية الطابع وزعامات روحية تقليدية. ولقد عملت هذه المجموعات بجهد جهيد في انتخابات 2006 ثم2007 التي جرت كلها في روح الانتخابات الطائعية: الاستثمار السياسي: العمل على النجاح السياسي بنية الاستفادة اقتصاديا (التعيين و المشاريع الاستثمارية وإسداء الصفقات والتمكين المحلي). ولقد تم ضرب هذه الآمال بالحديث عن ضرورة الراحة من هذا النمط السياسي بتعيين حكومة تكنوقراطية (ابريل 2007). ولقد شكل هذا القرار أزمة مالية في صميم النظام الاقتصاد-السياسي القائم فحواها تكسير الحركية المالية ذات الدفع السياسي. وكان لابد من صراع مع رئيس السلطة المنتخبة في كل مناسبات التعيين وإسداء المشاريع، وهو الأمر الذي لم يرفض الرئيس بصفة الانصياع أمامه بصفة مطلقة. النظام الذي توحد في مشروع حزبي لدعم الرئيس (بعد لأي) ثم اكتشف أن الحزب يعتبر مكافأة سياسية قصدها تسكين الأصوات دون تحويل الحزب إلى حزب حاكم بالمعنى السابق، أي دون جعله آلية لدر المنافع من السياسة، عبر عن تذمره من خلال مطالب مشاكسة للرئيس برد الإعتبار لأغلبيته الداعمة. أيضا، نجاح قوى تقليدية، دون أخرى، ومع قوى مداهنة -وبالتالي تقليدية- في فرض تراجع على الرئيس من خلال تعيينها في الحكومة الثانية (مايو 2008) تبين بسرعة أنه ليس انتصارا لها إذ تمت إحالتها للعمل في الرئاسة أو خارج البلاد وتقييد حريتها في التنفيذ في حالة مغايرة لهذا، إضافة إلى إبعاد القوى التقليدية الجديدة الفائزة في الانتخابات. عموما تم الحكم بقوى تقليدية ومحسوبين عليها دون تركها تحكم كما في الماضي.

كان من الواضح أن هنالك خوفا من تجربة النوم مع القوى التقليدية للمضامين الفاسدة التي يعنيها هذا؛ وهو الأمر الذي عنى خللا ماليا في صميم نمط الإنتاج القائم تمت ترجمته بسرعة إلى أزمة سياسية: انتصار سياسي مكتوف الأيدي يريد إطلاق اليد في الاقتصاد. بدا أن الرئيس إما هو "غبي" سياسيا لدرجة الاكتفاء بأن السياسيين يحققون انتصارهم بكون رؤيتهم السياسية التي يمثلها هو قد انتصرت أم أنه "شرير" بدرجة أنه يحاول كتم منافذ تنفس المخلوق التقليدي الذي عاش ألف عام في السياسة المتداخلة مع الاقتصاد والسلطة المحلية والاعتبار الذاتي  والعام.

دقت طبول الحرب وفي ملحمة صراع داروينية من أجل البقاء تكيفت القوى التقليدية مع الوضع السياسي الجديد  المتسم بالصراع وبدل أن تقوم بالتصفيق للمشروع السياسي الجديد( الذي يعني تقزيمها) ماهت نفسها مع مشروع عسكري مواز يستهدف رأس السلطة. طرح خيار حجب الثقة، وكان انتصارا للقوى التقليدية في حد ذاته أن تشب حرب حول هذا الموضوع لأن هذه الحرب أصبحت تعني صراعا من أجل تعريف نوعية النظام الذي يجب أن يسود وبالتالي اعترافا ضمنيا بها وقوة عملية لها، ولأن كل الطرفين المتصارعين في الأزمة (السلطة المدنية والعسكر) أصبح يتنازل للقوى التقليدية في سبيل الحسم الديمقراطي (بافتراض أنه سيكون محددا) باستلطافات وتعيينات معروفة، وبالتالي يقويها.كان مجمل أزمة حجب الثقة هو صراع نظام المكافأة السياسية ضد أي خيار يمكن أن يستعيض عنه.

كانت هذه أول مرة ترتبط فيها قوة القوى التقليدية بعدم الاستقرار السياسي: كان لابد أن يتمخض عن تقوية لنظام الاستثمار السياسي، القوي انتخابيا ومعنويا. كان واضحا حتى قبل الإنقلاب أن نهاية المعركة –لصالح من كانت- ستسفر عن تقوية نظام المكافأة وتراجع ديمقراطية الرأي لحساب ديمقراطية المجموعات.

   

2-العسكريين السياسيين: يتم الحديث عن قطيعة بين سلطة العسكريين في موريتانيا مع الحكم المدني في لحظة فتح طائعية في بداية التسعينيات. طبعا لا أحد يصدق هذا. لدواعي الأمن والنظام سمح نظام الطايع للعسكريين الحاكمين قبل "المسار الديمقراطي" بالتمدد السياسي في الكيان الوليد. كان هؤلاء هم الوحيدون القادرون على القيام بعمليات إنزال سياسيةparachutage politique  (العمل السياسي خارج مناطقهم التقليدية) بفعل تزكية السلطة القائمة، ولقد أعطاهم هذا نوعا من الرمزية الوطنية والموضوعية.

وفي اللحظات الموالية للانتخابات الصورية الأولى تم السماح لعلاقات السياسة والأعمال والجيش بالعمل خفية من أجل تغطية الرواتب المتدنية للعسكريين وإبعاد شبح التذمر إضافة إلى تحويل النظام من حكم الرأس إلى حكم "النظام" من خلال فتح الباب المكاسب والمنافع للرؤوس الكبيرة في النظام. ازداد حجم البطن العسكري واستمر وجود مدنيين بماض عسكري في السياسة و في المعاملات المالية اليومية.

ولقد قضت مسلمة استثراء العسكريين من النظام القائم بإشاعة تذمر في جزء دوني من المؤسسة العسكرية مما اعتبرته لاشعوريا إقصاء لها من هذا المكسب "الشرعي" وذالك في محاولة انقلاب الثامن يونيو 2003. (ليس صدفة أن قادة تلك المحاولة وقادة الأركان أيام نظام ولد الطايع وكل قائد عسكري في تاريخ البلاد يقفون الآن بحماس –رغم الخلاف الشديد بينهم- جنبا إلى جنب أعداء الأمس ضد العدو الأكبر، المدنيين الذين يحاولون إبعاد العسكر من المصالح القائمة).

ولقد سمحت استثمارات العسكريين وعلاقاتهم بالخريطة الاقتصادية (الذي سخي به لتخدير الانقلابات) بحضورهم في صراع المصالح ولذالك قاموا بانقلاب 2005 لحظة عدم يقين مصلحي دون وجود أي خلاف مبدأي أو فكري مع نظام الطايع. وتم أخذ سنتين من عمر البلاد كتعويض عن هذا وإرساء لعقد جديد مفاده: اتركوها لنا عامين خالصين لا نسأل عن ما نفعل ونتركها لكم أبد الدهر. ولقد أعاد هذا الأخير وشائج ولذة سياسية من الماضي تتعلق بتسيير الأمور علنا، إضافة إلى أنه قوى –من خلال الفساد- من تداخل علاقات العسكريين بالأعمال، وبالتالي السياسة. وفي الوقت الذي ظن فيه الكل على أن انقلاب 2005 سيكون آخر انقلاب فإن تحالف العسكريين وتماهيهم مع رجال الأعمال والسلطة التقليدية وتداخلهم مع قطاع الخدمات والمصالح المصرفية والاستثمار العقاري جعل إمكانية الفصل بين العسكريين والحياة الإقتصادية من مدخلها السياسي أمرا يحتاج لهزة عنيفة.

هذه المصالح التي تم تزكيتها أحيانا بجهود سيدي ولد الشيخ عبد الله في تعييناته الأولى (تعيين مقربين من العسكريين، توسعة صلاحيات السلطة العسكرية (وزارات، إدارة الأركان الصغرى، صلاحيات) هذا إضافة إلى بقاء علاقاتهم السياسية من جراء الحملة الأخيرة ناضجة. كان ولد الشيخ عبد الله يعيش في الزمن الضائع عندما اكتمل تحالف العسكريين ورجال الأعمال. وكان انقلاب السادس في جزءه الخفي صراعا على الخيرات التي أتاحتها الإستثمارات القادمة في الأفق، وكان لا بد أن تتحرك المؤسسة العسكرية في البحث عن مصالح. (لم يكن الصراع صراع مصالح في ذهن الجنرالات ولو أنه يفتح مصالح جديدة لعموم المؤسسة).

العقداء والجنرالات الذي تفرقهم الأهواء ويجمعهم الإيمان بنظام يضمن بقاء العسكريين في دائرة النفوذ توحدوا توحد الغنم أمام التطور الجديد مع تعيين حكومة جديدة في مايو 2008، حكومة الأيدلوجيا المدنية المعادية –والخائفة- من العسكريين والمتحالفة مع الجانب المعادي للعسكر من النظام التقليدي منذ ما قبل الثالث أغسطس. التربية العسكرية التي تربط بين مصالح العسكر والمصلحة العليا حولت الصراع إلى صراع وطني وتم إسقاط النظام الذي افتخرت المؤسسة بتقديمه منذ أشهر دون عقدة ذنب.

3- القوى النخبوية: ولقد أسفرت انتخابات 2007 عن إبعاد تيار طالما كان فاعلا في السياسة الموريتانية: البعثيين الموريتانيين. الحصيلة الإنتخابية: 33 مستشارا بلديا. وبما أن هؤلاء يشكلون تيارا تاريخيا ومشروعا اجتماعيا للتغييير فإن الحصيلة ردت إمكانية الفعل الحزبي –من الناحية النظرية- إلى ما يتلاءم مع الحجم الانتخابي الجديد: العمل النخبوي، التغيير الانتقائي.

ومن الصعب إقناع أي قوى بضرورة التخلي عن خطابها المشروع المتعلق بتغيير المجتمع والرقي به من خلال العمل السياسي. وفي السنوات الماضية أمكن لنظراء البعثيين، الناصرين، استشراف حالة الموت السريري التي يعاني منها الخطاب القومي العربي في المغرب العربي وأمكنهم بـ"ضربة معلم" سياسية تغذية دمائهم من خلال التحالف مع الدماء الشعبية الحارة لمسعود ولد بلخير.

الجميع فهم الدرس عندئذ: لابد من تغذية الأفكار القومية الوافدة بتيار محلي. وفي انتخابات 2007 حانت الفرصة، وحاول "الصوابيون" إعادة الإنجاز الناصري بالتحالف مع الزين ولد زيدان، أول تيار شعبي سياسي شاب عابر للولايات الجنوبية (المتحالف مع رأس المال المتعاطف بطريقة شخصية مع نظام الطايع). نجح التحالف ولكن فشل الإمتصاص. ومع انتهاء الإنتخابات اكتشف الصوابيون آلام الوحدة السياسية، وكان لا بد من عمل سريع. تمت الإستفادة من الخوف من عودة المبعدين وتم من خلاله صنع قضية وطنية يمينية الطابع من خلال صناعة خوف الرأي العام من المبعدين أو طرح قضيتهم بشكل مواز لقضية المسفرين، ولكن لم يمكن ترجمة هذا الانجاز الدعائي إلى فوز سياسي بفعل غياب أي استحقاق انتخابي في الأفق. جاءت الخطوة اللاحقة في شكل تحالف مع إسلاميي وقوميي النظام، برجوازية أصولية الطابع تمتلك خطابا هلاميا من الأخلاق العامة التي ينتجها الإعلام العربي المناهض للموقف الرسمي: أفكار إسلامـ-قومية.  وحدث اندماج بعض الصوابيين في "الفضيلة"، دون أن يقنع الأمر كل البعثيين الذين قرروا الاكتواء بنار الوحدة السياسية باقين في "الصواب".

عدم الرضي عن التجربة، رغم هذا، والخوف من أن تتحول النخبة الجديدة إلى مجرد قوة ضغط في النظام القائم (على غرار تجربة الجيل الأول من الإسلاميين) ولد خيار استراتيجيا رابعا في شكل تطورات ذهنية واقعية الطابع حدثت على مستوى العقل الفعال للمنظر الرئيسي للتيار النخبوي (سنصل إليها) وتتعلق تحديدا بتنزيل الفكر القومي إلى حالة اجتماعية خاصة بدلا من الحديث عن محددات عامة للأمة لا تثير الخلاف وبالتالي لا يمكنها الحسم انتخابيا. تقرر خيار البحث للفكر النخبوي عن جنود فاعلين يمكنهم صناعة امتداد شعبي مستديم. تم هذه المرة إنتاج مشروع واقعي يهدف إلى توحيد المجموعات التقليدية تحت قيادات نخبوية متحالفة مع العسكريين تشكل وصاية على النظام وتعطيه بعده الأيدلوجي، وكانت هذه فرصة لإنزال مشروع "موريتانيا الأعماق" الذي قدمه المنظر الاستراتيجي، محمد يحظيه ولد ابريد الليل (قارئ جيد لكلوزويتش ومكيافيللي وغوبينو)، في سلسلة مقالات دعت إلى التسليم للقوى التقليدية المنتصرة في الانتخابات واعتبرت "الضيم" القائم في عدم ترك مشروع القوى المنتصرة يحكم (الذي هو مشروع المكافأة السياسية) نوعا من جزاء سنمار. وتمت المراهنة على الانقلاب كأفضل حكم.

  بعد الانقلاب تحول المنظر النخبوي إلى منظر استراتيجي للنظام القائم من خلال تشكيل رؤية "موريتانيا الأعماق".  ولقد تم تقديم هذه الرؤية في إطار وثيقة قدمتها "المنسقية العامة لقوى مساندة التصحيح" للمنتديات العامة للتشاور بعنوان "وثيقة الإطار المرجعي" وخطها قادة التيار النخبوي وقد دعت إلى الحكم بـ"الأعماق" إضافة مدافعة كتابها عن تشريع وصاية العسكر على الحكم، وتنظيرات شفهية أخرى أكثر أهمية ومباشرة.

وأين "التكتل"؟

من الواضح أننا لم نتعرض في إطار حديثنا عن المصالح الثلاثة التي شاركت في إسقاط التجربة الديمقراطية الوليدة لدور "تكتل القوى الديمقراطية"، الحزب "المعارض" الذي ماهى نفسه –ظرفيا- مع مشروع الانقلاب. وفي حقيقة الأمر فإنه إذا حذفنا الموقف الشخصي لزعيم الحزب وبقية القيادة التاريخية التي تم إقصاءها بقرار الحزب التاريخي -ولكن غير المعلن- بالتحول من حزب حداثي اشتراكي-ديمقراطي إلى حزب تقليدي، فإن بقية الحزب -الذي هو مجموعات ضغط وقوى تقليدية قررت انتهاج خيار الإندماج في حزب معارض لتخفيف حدة التنافس مع قوى التقليدية الأخرى المندمجة في بقية الأحزاب مع الاستمرار في لعب نفس الدور القاضي بجر الحزب إلى خيارات مداهنة يمكنها استثمارها سياسيا والاستفادة منها اقتصاديا- لا يخرج عن المصالح الثلاثة أعلاه.

الطايع الأرستقراطي

من عبث الأقدار اليوم أن القوى التي حاربت نظام ولد الطايع (المصالح الثلاثة بما فيها خيار التكتل)هي نفسها القوى التي تعمل جاهدة على بعث مشروعه الاجتماعي، مشروع أرستقراطي سياسي، نظام التمثيل والمكافأة السياسية.

ولكي نفهم ارستقراطية المشروع لا بد من فهم نوعية النظام الموريتاني في عهد ولد الطايع. وفي الحقيقة فإن حدثين اجتماعيين مهمين هما حصيلة الواحد والعشرين عاما الطائعية، والحتمية الطبقية عموما:

1- تم تثبيت سيطرة الأرستقراطية من خلال اعتماد نظام المحاصصة والقبلية السياسية. وهذه المرة لم يتم الانطلاق من الواقعية الإنتاجية كما يحدث في المجتمعات الإقطاعية بل تم ترسيخ "عمود النسب" أو اعتماد القبلية السياسية من حيث هي تدرج طبقي تاريخي، وتم تأكيد هذا من خلال نظام التمثيل. بدل أن يتم اعتماد القوة الإنتاجية للقبيلة (التي تضررت كثيرا بعيد الاستقلال والتحول إلى المدينة وانتهاء العبودية وبقية أنماط الولاء القسري والملكية القبلية العامة) تم تعويض القبيلة باعتماد وجودها ككيان هوياتي ضرورة لتمثيلها في النظام الحاكم، ولقد تم لدواع تمثيلية محضة- توسيع الأرستقراطية بفسح المجال لفئات وطبقات خارجة تاريخيا على نظام التمثيل (أرقاء ولحمة)، كما تم تحويل الايدلوجيات والمجموعات الحداثية (أحزاب وأيدلوجيات و منظمات مجتمع مدني) إلى قبائل يتم تمثيلها بشكل مواز –ولكن أقل- في النظام.

2- ظهرت القبلية السياسية أول ما ظهرت مع المستعمر الفرنسي، ولكنها كانت قبلية رمزية غير قادرة على التسيير المحلي واتخاذ القرارات أو در المنافع الاقتصادية من عملها السياسي (انتخابات شياخة القبائل وتقديم الولاء للمستعمر)، وكانت في جوهرها صراع كرامات أو حروب رموز يتم فيها توظيف العصبية والشحناء والحمية القبلية في خدمة الولاء الفرنسي مع السماح لها بالانتصار الرمزي. سمح التطور الطائعي بتحويل الدولة إلى دولة ريعية يمكن للمجموعات في حالة العمل على التعبئة لصالح النظام أن تستفيد منها من خلال السماح لها بالمشاركة الممنهجة في التسيير المحلي والوطني. سمح هذا بـ"دمقرطة السياسة": تحويلها إلى مجال كسب و ريع مفتوح للجميع وليس فقط مكان انتصارات معنوية للقبيلة. تم تحويل القبلية السياسية من قيمة أخلاقية إلى حقيقة مادية مدرة للدخل.

لقد أدت هاتان النقطتان إلى تقوية النظام الارستقراطي (المفترض أن يتراجع أمام تحالف الطبقة الوسطى والعمال والفلاحين مع ظهور الدولة الحديثة) الذي تتركز فيه السلطة في يد رأس-المال الاجتماعي: المشخيات، المرجعيات الروحية، الوجهاء والأعيان، وأيدلوجيون قبليون، وإداريون بصلاحيات واسعة. صحيح أنه قد تم فسح المجال لأحد ركني الارستقراطية التاريخية بالصعود فوق الآخر (الزوايا فوق حسان) لعوامل منها الكثافة السكانية وقدرة نموذج السلطة عند الزوايا الذي هو سلطة رمزية دينية وتدرج قبلي (بدل الصراعات الأسرية التاريخية) على الالتفات على الشكل القانوني للدولة الحديثة وهو ما فشل فيه النموذج الحساني المعتمد على نظام المكوس والحماية العسكرية والنخاسة، ولكن روح النظام الارستقراطي بقيت مسيطرة كما هي؛ ولقد تم توسيعها من خلال إنتاج ناشطين في النظام القائم من خلال تقليدهم صلاحيات واسعة يتم استغلالها في صنع رأسمال اجتماعي لا أصل له تاريخيا ونَسَبيا ولكنه يعمل نفس العمل كما لو كان له ذالك التاريخ، وكل هذا دون تفتيت الشكل-القبلي السياسي القائم؛ بمعنى أنه تمت إعادة ترتيب التدرج الأسري والفئوي داخل النظام الأرستقراطي وتم توسيعه بما يسمح له بامتصاص التيارات الحداثية وإكراهات الدولة المدنية دون تجاوز هذا الشكل.

الاستمرار: أرستقراطية المشروع

يواصل مشروع "موريتانيا الأعماق" ترسيخ هذه القيم، بل إن ظهوره هو رد على أول تحد لهذا النظام (نظام نبلاء يستند على أعلى "الطبقة الوسطى" وسلطة التسيير الإداري). وهو مشروع أرستقراطي لأنه انتصار لنظام الأعيان على نظام التكنوقراط، وانتصار للمكافأة على الحرية الاقتصادية والفكرية (يقضى النظام الحالي جل وقته في تعيينات إدارية-سياسية، انتخابية الغرض تكرس قوة النظام القبلي العتيق)، وهو انتصار على محاولة النظام المطاح به (بعد تجربة التكنوقراط) عزل القوى التقليدية من الفعل السياسي (بغض النظر عن وجود رموز تقليدية -وهو ما سمي في حينه"رموز فساد"- لأنها وكما رأينا فإنها لم تعتمد كفاعل سياسي) ولأنه انتصار للقوى التقليدية- المنتصرة أصلا في الانتخابات- على الإرادة التنفيذية والقانونية القاضية بعدم الحكم وفق أجندة هذه القوى.

المشروع الارستقراطي واع بنفسه هذه المرة، وكان المنظر الاستراتيجي، محمد يحظيه ولد ابريد الليل، هو أول صوت فكري (سبقته الأصوات السياسية للقوى التقليدية المتذمرة في أزمة حجب الثقة) يدعو للخضوع لنتائج الانتخابات من خلال تسليم الحكم للأغلبية. وهو لم يكن يقصد الحكم بالأوجه المنتصرة بقدر ما كان يقصد العودة إلى نظامها الذي لم ينتصر، نظام المكافأة. والجديد هذه المرة أن النخبة المهشمة في الانتخابات هي النخبة التي تطالب بنيل حقوق الأغلبية التي هزمتها، مع العلم أنها بررت الهزيمة الانتخابية في حينها بأنها نتيجة رفض مشروع الأغلبية القائم على أسس الفساد السياسي". ولقد سمى الكاتب الكبير هذه المطالبة وهذا النظام الجديد بـ"موريتانيا الأعماق"، وظهرت التسمية لأول مرة في مقالة قطعية بعنوان "تفاديا للعار"، وهذه التسمية التقطها غوبلز النظام الجديد، العقيد ولد باية، في جولاته التعبوية في عموم البلاد التي اعتبر فيها أن الانقلاب هو انتصار لهوية البلاد ممثلة في العمق التقليدي الذي تم إقصاء قدرته على الحكم من خلال "ائتلاف إسلامي-شيوعي متحالف مع الولايات المتحدة"، برأيه. ومن ثم تم اعتماد المصطلح دعائيا في إطار بوتقة إعلامية جديدة.

وبالنسبة لولد ابريد الليل فإن المراهنة على هذا النظام تأتي في إطار هم البحث عن عمق للفكر القومي الذي لم يحالفه الحظ في الانتخابات "الديماغوجية" (وصفت هكذا في حينه). ولا بد هنا من العودة إلى مكيافيللي الذي يقرأه ابريد الليل باهتمام لتقصي فكرة "موريتانيا الأعماق". والواقع أن مكيافيللي كان قد دعا إلى "فلورنسا الأعماق" في  أوائل القرن السادس عشر من خلال مشروع "الأوردينثياد" (وحتى الكلمة في حد ذاتها تحوى حنينا للعمق الطبيعي للأمة مثل موريتانيا الأعماق) التي دعا فيها إلى تكوين نظام يناهض قيم المدنية، السائدة في فلورنسا من خلال حكم التجار والمركنتالية الإيطالية والمدن-الجمهوريات، نظام يتأسس على ممثلين من البدو وملاك الأراضي البعيدة عن العاصمة وقادة الأنظمة الكنسية المؤيدين وهم باعتقاده هم جوهر قوة البلاد وهويتها؛ وولد بريد الليل يحمل هم الحاجة إلى العمق منذ القديم وهو يعتقد في مقالة قديمة أن مشكلة البلاد هي أنها  "رأس بلا جذع"، وما لم تتخلص البلاد من "الوصاية من "عل" فستظل مشلولة"، ولا بد من تحالف عمق البلاد برأسها.؛ وبرأيهما فإن تقوية النظام القائم بالهامش القبلي والبدوي البعيد عن التنظيرات الأيدلوجية لدولة الحداثة يعطي ضمانات ضد إمكانية استقلال وثورة المدن-الجمهوريات في حالة استقلت اقتصاديا من الاعتماد على الدولة. "إن جيش الدولة" –برأي مكيافيللي-"وحاميها يجب أن يكون قبائليين ورجال أعماق قادمين من توسكاني والضواحي المجاورة".

كان مكيافيللي انتصارا لفلورنسا الأعماق (فلورنسا القومية) على فلورنسا الأمراء والتجار (فلورنسا الحداثية). والفرق الوحيد هو أن مكيافيللي لم يكن يسعى لتقوية الأرستقراطية بقدر ما كان يريد إزاحتها لصالح البرجوازية.

ويمكن قراءة المنظرين في تنظيرات بعضهما. وولد ابريد الليل يشبه مكيافيللي في اعتماد "إرساء العدالة بالسلاح" أي إعادة الاعتبار للعمق القبلي للبلاد من خلال الانقلاب، و "ضرورة بذل المال من أجل توطيد دعائم النظام العميق" إضافة إلى الخيار الإستراتيجي بضرورة "استغلال المرتزقة السياسية والعسكرية" في عملية الصراع القائم دون تمكينها ودون تهمشيها بالكامل.

ومكيافيللي يشبهه في الاستغاثة بحاكم انقلابي "قاس" و "جسور" و "لا يعطي بالا للمثاليات" في سبيل إرساء هذا النظام. وعندما زار مكيافيللي بورجيا في العام 1502 فإنه لم يستطع إخفاء إعجابه بـ"الانقلاب" الذي أقامه قيصر بورجيا الذي غدر برئيس (الكونديورتي) ورهطه عندما استدعاهم لحفل عشاء وذبحهم من الوريد إلى الوريد. وقد اعتبر مكيافيللي أن سذاجة الكونديورتي تبرر القضاء عليه. (كان هنالك من برر الانقلاب في موريتانيا بسذاجة قرار إقالة الضباط ) *.

* أفكار مكيافيللي الواردة هنا بين ظفرين هي من كتابي مارشاند وتاريخ فلورنسا وشئون إيطاليا.

القوة: لاديمقراطية المشروع

المشروع الجديد غير ديمقراطي بأي اعتبار. وهو ليس ديمقراطيا لأنه انقلاب على التداول السلمي للسلطة وقفز على نتيجة تم التوافق عليها ديمقراطيا من قبل المجتمع السياسي، وهو ليس ديمقراطيا لأن قوى غير ديمقراطية تؤيده (قوى نخبوية مهزومة انتخابيا، جيش حنون للسلطة، وحزب معارض يعتبر وصوله للسلطة وليس ممارسته للسياسة -وبالتالي مشروعه الاجتماعي- خياره الوحيد في العمل السياسي). (مكيافيللي أيضا رفض الديمقراطية التي سماها المعارضة والاتفاق أو negotiation and agreement ووضع مكانها القوة).

والمشروع ليس ديمقراطيا بالتحليل الطبقي أيضا. وتاريخيا تراجعت الحظوظ الديمقراطية بانتصار الأرستقراطية المتحالفة مع أعلى الطبقة الوسطى، وارتبط نمو الديمقراطية عالميا بتراجع الإقطاع (سواء السياسي الذي هو النموذج الموريتاني، أو الاقتصادي، المعتمد على الملكية ألأرضية، وهو ليس بعيدا من الحالة أيضا). أما في اللحظات التي انتصر فيها تحالف الأرستقراطية والبرجوازية في مواجهة الموظفين والطلبة والعمال والفلاحين والعوام فإن الأمر لم يولد ديكتاتورية فقط بل و فاشية أو نازية.

والمشروع غير ديمقراطي حتى بالمعاني النظرية. ولابد هنا من إيجاد الأصول اللاديمقراطية لموريتانيا الأعماق عند المنظر الإستراتيجي الكبير. ولدواع قومية فإن خبراء المشروع لا يؤمنون أصلا بشرعية الدولية القطرية حتى لو تقرر خيارها ديمقراطيا لأنها دولة مارقة على الأصل القومي، وهو لنفس الأسباب لا يؤمن بدولة حداثية تجعل المواطنة نقيضا للأصل القومي، ويؤمن بالانقلاب القومي على الخيار الديمقراطي إذا كان "فرانكفونيا علمانيا" (حسب تعبير منظر قومي آخر)، الذي هو تشخيصه للنظام الموريتاني المطاح به. كما أن انتكاسة التيار الانتخابية هي في جزء كبير منها عدم خبرة في التعاطي مع العمل القاعدي والتمرس في الأدبيات الديمقراطية.

ورغم أن مشروع "موريتانيا الأعماق" يبدوا للوهلة الأولى خيارا جمعويا إلا أنه أبعد ما يكون من الديمقراطية إذ يتأسس على الوصاية إما من خلال مجلس عسكري أعلى أو من خلال أمانة وصية على "الحفاظ على الهوية" تقديرها الجيش أو العمل النخبوي أو هما معا. وفي حقيقة الأمر فإن منظري النظام الجديد يعتبرون دور النخبة فاعلا في توجيه النظام وذالك لأسباب أيدلوجية تعود إلى أدبيات "القيادة" عند الفكر النخبوي وتندرج في إطارها محاولة التغيير بالانقلاب.

وليس صدفة في هذا الإطار أن مبادرة "أفلاطونية" لدعم النظام الجديد قامت بتقديم نفسها في صفة وعنوان معاد للديمقراطية واعتبرت في بيانها الأول أن الديمقراطية لا تصلح لموريتانيا "حيث لابد من فرض الإرادة على الشعب الفوضوي" كما أنها "مسئولة عن كوارث إنسانية مثل إبادة الهنود الحمر في الولايات المتحدة الأمريكية". ورغم عدم دقة المعلومة تاريخيا -إذ ترتبط الديمقراطية بالفصل بين السلطات ودولة القانون وليس بحرية الفعل خارج القانون كما أن إبادة الهنود الحمر في أمريكا تمت قبل المسار الديمقراطي وبواسطة مجموعات فرت من إنجلترا بسبب الديمقراطية التي تعطي حرية التدين من الخلال "التوفيق الإليزابيثي"، كما أنه تم وقف إبادة الهنود واستعباد السود بفعل تطور الديمقراطية الأمريكية وليس رغما عنه- إلا الأفكار تعكس نظرية سائدة في مشروع موريتانيا الأعماق، إضافة إلى أن طرح مبادرة من هذا النوع في ظل مبادرة كسبية يعني استحسانها من قبل القوة الحاكمة ووعيها بخطر الديمقراطية على مشروعها

.

الجسد: قومية المشروع

مع عجز التيارات القومية العربية (لأسباب عدة، بعضها موضوعي) عن تحقيق الطموحات التي حددت لنفسها انبثق من القومية تياران مراجعان: قومية تنويرية يسارية الطابع دعت للعودة للتعريب الطوعي من خلال المشروع الثقافي لليازجي والكواكبي وأرسلان وقد مثل هذا مفكرون يساريون أمثال عزمي بشارة وإسلاميون أمثال منير شفيق، فيما تفرع من يمين القومية خيار جديد يدعو لتنزيل الفكر القومي إلى الصراع الاجتماعي القائم من خلال بناء الثقافة على العنصر أو الفئة وقد مثل هذا التيار المجموعات القومية السياسية بما فيها ما أسميناه بالتيار النخبوي الموريتاني.

والنظرة التي تقدم هنا هي أن هوية البلاد هي ثقافة قائمة وليست أواصر الرباط الذي يفرضه الاقتصاد المشترك والمسئولية والواجبات- كما يذهب الشيوعيون- بل هي وحدة تاريخية ثقافية يجب المحافظة عليها بالعمل النخبوي، ويسمى هذا المشروع هنا بـ"موريتانيا الأعماق" وتارة بـ"تراب البيظان".

وبحسب اعتقاد ولد ابريد الليل في مقال موح بعنوان "التحديات الإستراتيجية للديمقراطية الموريتانية" فإن المخاطر التي تهدد موريتانيا هي قيمية وتتعلق بنمط تصرف قادم من الجنوب. إن "تراب البيظان" ليست قيمة جغرافية ولكنها الاصطفاء الثقافي و"الشيء الذي يوجد له العالم" بتعبير باركللي، وهذا الاصطفاء يخشى الانسحاق القيمي الذي تفرضه الديمغرافيا المتحركة. وتشبه الدعوة إلى المحافظة على قيم الأمة بحمايتها عرقيا لغة ألكسيس كاريل مؤلف "الإنسان، ذالك المجهول" (والحائز على نوبل في الفسيولوجيا والطب). وباعتقاد كاريل أنه يمكن تحسين الجنس البشري من خلال قيادته بالعرق الأسمى، الذي هو عرق أبيض. واعتبر أن العمال والحرفيين الذين هم أسفل السلم الاجتماعي هم دوما من الأعراق المنحطة في المجتمع لآن الأمر يتعلق بنقص عرقي. إن العمال والحرفيين القادمين من الجنوب هم حصان طروادة أخلاقي سينفجر في أي لحظة لتخرج منه السيوف المسمومة. وفي مرحلة لاحقة دعا كاريل المرتعش هلعا من الديمغرافيا المتحركة إلى استخدام غرف الغاز من أجل تخليص البشرية من الأعراق الأضعف كما طالب بالتحسين الجيني للأعراق.

وموريتانيا الأعماق هي هوية الأمة العرقية وتجل لتاريخها الثقافي و يجب أن تحكم في هذا المخطط بانقلاب أرستقراطي يكرس هذه القيم المهددة بأيدلوجيات المواطنة التي تتحدى الأصل القومي للأمة. إن "تراب البيظان" من حيث هي وحدة ثقافية هي العلو الثقافي في البلاد، ويجب على العمل النخبوي المتحالف مع العسكر أن يصون هذا العلو المهدد ديمغرافيا.

إن آرثر غوبينو، الذي كان أبا للحركات القومية الأوروبية في القرن العشرين ليطرح مشروعا ملفتا للنظر لمنظري موريتانيا الأعماق. وغوبينو، الأرستقراطي، المصاب بهوس الخوف من سقوط الأرستقراطية ونهاية الرجل الأبيض، هو من فلاسفة الأعماق وهو يعتقد في كتابه "مقال في عدم تساوي الأعراق البشرية" الذي أصبح قرآن النازية والفاشية أن العنصر يصنع الثقافة وأن الاختلاط، الذي تكرسه الديمقراطية أو الشيوعية من حيث هي مواطنة ترفض التمييز القومي، عائق أمام الإبداع (=النقاء) العرقي. وبالنسبة له فإن العرق الأبيض متعال ثقافيا، (إذ لم توجد حضارة في التاريخ لم يشيدها العرق الأبيض، برأيه) تماما كما تتعالى موريتانيا الأعماق على ما سواها، ولا بد من حمايته بالسيطرة الثقافية وبالانقلاب على الحركية الثقافية والامتزاج العرقي.

ليست قومية "موريتانيا الأعماق" قومية كلاسيكية تتطلع إلى توحيد "الأمة" بالإحالة إلى هويتها التاريخية (باعتبارها موجودة أصلا) ريثما يتم توحيدها بأواصر الاقتصاد والمصالح العامة الموثقة بالدولة الحديثة، بل هي "صعود الأشراف" انغلاقي رافض للحسم الديمقراطي، وهو بهذا المعني لا يمكن إلا أن يمر من نافذة يمينية كارهة للعناصر، طبقية الطابع و لا تقبل دولة المواطنة إلا في شكل الصهر الثقافي.

مجتمع قديم

في سكون الليل البهيم، يقضه أرق الإبداع، آوى الخيمائي الكبير إلى مخبره العتيد المشيد لغاية إنتاج حجر الفلاسفة. تهلهلت أساريره بـ"وجدتها" الأرخميدية وهو يصب محلولا من الوعاء الكبير الممتلئ بالمرهم العجيب داخل الألمبيق. هذه المرة سيصلح المحلول. قطرات متتالية ترشح من الألمبيق في الوعاء ثم دخان ينتشر في عموم المخبر. وجدتها: مشروب "الأعماق".

في الصباح اجتمع الأشراف على نخب من مشروب الأعماق. تعالت صيحات الانتصار فيما العبيد والجواري يهرولون للخدمة، الشعراء والمداح يزمرون بالدفوف، المثقفون يصفقون بالأيدي والأرجل، (عادة قديمة عند العبيد عند خروج الجيش للحرب)،الشعر والشكر مدخلان للإرتقاء.

مع إنزال المشروع تبين أن المجتمع "السياسي الجديد" ليس جديدا بالمرة وأنه لا يعدو كونه تجارب موجودة أصلا في جسم الدولة، سيطرت قديما، وتحاول السيطرة، وكانت دوما، بما هي تحالف الأسياد والإداريين، عائق أمام انفتاح ديمقراطي حقيقي. تبين أن مشروع "تجديد الطبقة السياسية" ليس أكثر من تصفية إدارية-سياسية واسعة لمشاركة الآخرين في جسم الدولة. تبين أن الحتمية الطبقية لا يمكن أن تهزم بديمقراطية قادمة من أعلى. تبين أن الضربات التي لا تقتل المخلوق الطبقي لا تقويه فقط ولكنها تثقفه وتفتح أعينه بحيث يعرف أعداءه جيدا: الديمقراطية، المواطنة،الحداثة.

هذه هي قصة الغابة التي تحجبها الشجرة. هذه هي قصة الحرب التي تم تناسيها في خضم المناوشات الشخصية. هذه قصة الجثة التي غرقت في بحر النسيان ولم يعد يجدي الحديث عنها جملة

Publicité
Commentaires
Publicité